الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{أصحاب الجنة هم الفائزون}.. يثبت مصيرهم ويدع مصير أصحاب النار مسكوتا عنه. معروفا. وكأنه ضائع لا يعنى به التعبير!{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}الدرس السابع: 21 أثر القرآن على النفوس:ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزه؛ وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزل عليه: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}.وهي صورة تمثل حقيقة. فإن لهذا القرآن لثقلا وسلطانا وأثرا مزلزلا لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته. ولقد وجد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ما وجد، عندما سمع قارئا يقرأ: {والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع}... فارتكن إلى الجدار. ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهرا مما ألم به!واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحا لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيها اهتزازا ويرتجف ارتجافا. ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغنطيس والكهرباء بالأجسام. أو أشد.والله خالق الجبال ومنزل القرآن يقول: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله}.. والذين أحسوا شيئا من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقا لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي.{وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}..وهي خليقة بأن توقظ القلوب للتأمل والتفكير..الدرس الثامن: 22- 24 مجموعة من أسماء الله الحسنى وتسبيح الكون له:وأخيرا تجيء تلك التسبيحة المديدة بأسماء الله الحسنى؛ وكأنما هي أثر من آثار القرآن في كيان الوجود كله، ينطلق بها لسانه وتتجاوب بها أرجاؤه؛ وهذه الأسماء واضحة الآثار في صميم هذا الوجود وفي حركته وظواهره، فهو إذ يسبح بها يشهد كذلك بآثارها:{هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم}.{هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون}.{هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}.إنها تسبيحة مديدة بهذه الصفات المجيدة. ذات ثلاثة مقاطع. يبدأ كل مقطع منها بصفة التوحيد: {هو الله الذي لا إله إلا هو}.. أو {هو الله}..ولكل اسم من هذه الأسماء الحسنى أثر في هذا الكون ملحوظ، وأثر في حياة البشر ملموس. فهي توحي إلى القلب بفاعلية هذه الأسماء والصفات. فاعلية ذات أثر وعلاقة بالناس والأحياء. وليست هي صفات سلبية أو منعزلة عن كيان هذا الوجود، وأحواله وظواهره المصاحبة لوجوده.{هو الله الذي لا إله إلا هو}.. فتتقرر في الضمير وحدانية الاعتقاد، ووحدانية العبادة، ووحدانية الاتجاه، ووحدانية الفاعلية من مبدأ الخلق إلى منتهاه. ويقوم على هذه الوحدانية منهج كامل في التفكير والشعور والسلوك، وارتباطات الناس بالكون وبسائر الأحياء. وارتباطات الناس بعضهم ببعض على أساس وحدانية الإله.{عالم الغيب والشهادة}.. فيستقر في الضمير الشعور بعلم الله للظاهر والمستور. ومن ثم تستيقظ مراقبة هذا الضمير لله في السر والعلانية؛ ويعمل الإنسان كل ما يعمل بشعور المراقب من الله المراقب لله، الذي لا يعيش وحده، ولو كان في خلوة أو مناجاة! ويتكيف سلوكه بهذا الشعور الذي لا يغفل بعده قلب ولا ينام!{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السلام الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)}{هو الرحمن الرحيم}فيستقر في الضمير شعور الطمأنينة لرحمة الله والاسترواح. ويتعادل الخوف والرجاء، والفزع والطمأنينة. فالله في تصور المؤمن لا يطارد عباده ولكن يراقبهم. ولا يريد الشر بهم بل يحب الهدى، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الشرور والأهواء.{هو الله الذي لا إله إلا هو}.. يعيدها في أول التسبيحة التالية، لأنها القاعدة التي تقوم عليها سائر الصفات..{الملك}.. فيستقر في الضمير أن لا ملك إلا الله الذي لا إله إلا هو. وإذا توحدت الملكية لم يبق للمملوكين إلا سيد واحد يتوجهون إليه، ولا يخدمون غيره. فالرجل لا يخدم سيدين في وقت واحد {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}..{القدوس} وهو اسم يشع القداسة المطلقة والطهارة المطلقة. ويلقي في ضمير المؤمن هذا الإشعاع الطهور، فينظف قلبه هو ويطهره، ليصبح صالحا لتلقي فيوض الملك القدوس، والتسبيح له والتقديس.{السلام}.. وهو اسم كذلك يشيع السلام والأمن والطمأنينة في جنبات الوجود، وفي قلب المؤمن تجاه ربه. فهو آمن في جواره، سالم في كنفه. وحيال هذا الوجود وأهله من الأحياء والأشياء. ويؤوب القلب من هذا الاسم بالسلام والراحة والاطمئنان. وقد هدأت شرته وسكن بلباله وجنح إلى الموادعة والسلام.{المؤمن} واهب الأمن وواهب الإيمان. ولفظ هذا الاسم يشعر القلب بقيمة الإيمان، حيث يلتقي فيه بالله، ويتصف منه بإحدى صفات الله. ويرتفع إذن إلى الملأ الأعلى بصفة الإيمان.{المهيمن}.. وهذا بدء صفحة أخرى في تصور صفة الله-سبحانه- إذ كانت الصفات السابقة: {القدوس السلام المؤمن}صفات تتعلق مجردة بذات الله. فأما هذه فتتعلق بذات الله فاعلة في الكون والناس. توحي بالسلطان والرقابة.وكذلك: {العزيز الجبار المتكبر}.. فهي صفات توحي بالقهر والغلبة والجبروت والاستعلاء. فلا عزيز إلا هو. ولا جبار إلا هو. ولا متكبر إلا هو. وما يشاركه أحد في صفاته هذه. وما يتصف بها سواه. فهو المتفرد بها بلا شريك.ومن ثم يجيء ختام الآية: {سبحان الله عما يشركون}..ثم يبدأ المقطع الأخير في التسبيحة المديدة.{هو الله}.. فهي الألوهية الواحدة. وليس غيره بإله.{الخالق}.. {البارئ}.. والخلق: التصميم والتقدير. والبرء: التنفيذ والإخراج، فهما صفتان متصلتان والفارق بينهما لطيف دقيق..{المصور}. وهي كذلك صفة مرتبطة بالصفتين قبلها. ومعناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة.وتوالي هذه الصفات المترابطة اللطيفة الفروق، يستجيش القلب لمتابعة عملية الخلق والإنشاء والإيجاد والإخراج مرحلة مرحلة- حسب التصور الإنساني- فأما في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل ولا خطوات. وما نعرفه عن مدلول هذه الصفات ليس هو حقيقتها المطلقة فهذه لا يعرفها إلا الله. إنما نحن ندرك شيئا من آثارها هو الذي نعرفها به في حدود طاقاتنا الصغيرة!{له الأسماء الحسنى}.. الحسنى في ذاتها. بلا حاجة إلى استحسان من الخلق ولا توقف على استحسانهم.{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}والحسنى التي توحي بالحسن للقلوب وتفيضه عليها. وهي الأسماء التي يتدبرها المؤمن ليصوغ نفسه وفق إيحائها واتجاهها، إذ يعلم أن الله يحب له أن يتصف بها. وأن يتدرج في مراقيه وهو يتطلع إليها.وخاتمة هذه التسبيحة المديدة بهذه الأسماء الحسنى، والسبحة البعيدة مع مدلولاتها الموحية وفي فيوضها العجيبة، هي مشهد التسبيح لله يشيع في جنبات الوجود، وينبعث من كل موجود:يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم..وهو مشهد يتوقعه القلب بعد ذكر تلك الأسماء؛ ويشارك فيه مع الأشياء والأحياء.. كما يتلاقى فيه المطلع والختام. في تناسق والتئام. اهـ.
.قال الشنقيطي: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}تقدم للشيخ رحمه الله كلام على معنى التسبيح عند قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79].وقال رحمه الله: التسبيح في اللغة الإبعاد عن السوء، وفي اصطلاح الشرع تنزيه الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وساق رحمه الله النصوص في تسبيح المخلوقات جميعها.وقال في آخر المبحث: والظاهر أن قوله تعالى: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} مؤكد لقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق للعادة، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة من الجزء الرابع وذكر عند أول سورة الحديد زيادة لذلك.وفي مذكرة الدراسة مما أملاه رحمه الله في فصل الدراسة على أول سورة الجمعة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} [الجمعة: 1] قال: التسبيح التنزيه، وما التي لغير العقلاء، لتغلب غير العقلاء لكثرتهم، وكان يمكن الاكتفاء بالإحالة على ما ذكره رحمه الله تعالى، إلا أن الحاجة الآن تدعو إلى مزيد بيان بقدر المستطاع، لتعلق المبحث بأمر بالغ الأهمية، ونحن اليوم في عصر تغلب عليه العلمانية والمادية، فنورد ما أمكن أملًا في زيادة الإيضاح.إن أصل التسبح من مادة سبح، والسباحة والتسبيح مشتركان في أصل المادة، فبينهما اشتراك في أصل المعنى، والسباحة في الماء ينجو بها صاحبها من الغرق، وكذلك المسبح لله والمنزه له ينجو من الشرك ويحيا بالذكر والتمجيد لله تعالى.وقد جاء الفعل هنا بصيغة الماضي: سبح لله كما جاء في أول سورة الحديد.قال أبو حيان عندها: لام أمر الله تعالى الخلق بالتسبيح في آخر سورة الواقعة، يعني في قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 95- 96] جاء في أول السورة التي تليها مباشرة بالفعل الماضي، ليدل على أن التسبيح المأمور به قد فعله: والتزم به كل ما في السماوات والأرض. اهـ.ومعلوم أن الفعل قد جاء أيضًا بصيغة المضارع كما في آخر هذه السورة: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} [الحشر: 24]، وفي أول سورة الجمعة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} [الجمعة: 1]، وفي أول سورة التغابن: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]، وهذه الصيغة تدل على الدوام والاستمرار.بل جاء الفعل بصيغة الأمر: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1]، {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 74]. وجاءت المادة بالمصدر: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]، ليدل ذلك كله بدوام واستمرار التسبيح لله تعالى من جميع خلقه، كما سبح سبحانه نفسه، وسبحته ملائكته ورسله، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه.وما في قوله تعالى: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ} من صيغ العموم، وأصل استعماله الغير العقلاء، وقد تستعمل للعاقل إذا نزل غير العاقل، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} [النساء: 3]، ومجيؤها هنا لغير العاقل تغليبًا له لكثرته كما تقدم، فتكون شاملة للعاقل من باب أولى.
|